هل تصبح الأفلام التفاعلية مثل Black Mirror مستقبل السينما؟

منذ بزوغ السينما قبل أكثر من قرن، ارتبطت متعة المشاهدة بتدفق سردي ثابت لا يتدخل فيه المشاهد إلا بالتفاعل الانفعالي. غير أن ظهور منصات البث الرقمي والتقنيات التفاعلية أعاد فتح الباب أمام تجربة سينمائية جديدة يستطيع فيها الجمهور أن يختار مسار القصة بنفسه. وقد مثلت حلقة “Bandersnatch” من مسلسل Black Mirror على منصة نتفليكس علامة فارقة حينّمَا سمحت للمشاهدين باتخاذ قرارات تؤثر على مصير الشخصية الرئيسية. فهل تصبح الأفلام التفاعلية – تلك التي تعطيك خيارات حقيقية أثناء المشاهدة – مستقبل السينما؟
تعريف الأفلام التفاعلية
يمكن تعريف الفيلم التفاعلي على أنه عمل سينمائي أو تلفزيوني يقدّم للمشاهد نقاطَ اختيار يمكنه عبرها تغيير مسار الأحداث أو مصير الشخصيات أو حتى النهاية. وتنطوي هذه التقنية على فرعين أساسيين:
التفرعات السردية: حيث تنقسم القصة إلى مسارات متعددة، ويختار المشاهد بين بدائل متتابعة.
التفاعل اللحظي: اعتمادًا على أجهزة التحكم (ريموت أو تطبيق)، يحدد المشاهد قرارات تؤثر على سلوك الأبطال خلال المشهد ذاته.
نُموذج “Bandersnatch” وتجربة “Black Mirror”
عام 2018، أطلقت نتفليكس حلقة “Bandersnatch” التفاعلية ضمن موسم مسلسل Black Mirror، لتتيح للمشاهدين عبر أجهزة التلفاز اختيار وجبة الإفطار أو طريقة حل البازل الذي يواجهه المبرمج “ستيفن”. وتمتعت التجربة بنحو 300 خيار سردي ونهايات متعددة (أكثر من خمسة)، مما أثار اهتمام النقاد والجمهور على حد سواء. واستفادت الحلقة من سهولة واجهة المستخدم في المنصة ودعمها للأجهزة المختلفة؛ إذ يكفي للمشاهد الضغط على الزر الملون لاختيار المسار التالي.
لماذا ينجذب الجمهور للأفلام التفاعلية؟
الشعور بالمشاركة: تحوّل تجربة المشاهدة من سلبية—جلوس ومتابعة—إلى فاعلة، إذ يشعر المشاهد بأنه شريك في صناعة القصة.
التكرار والإعادة: يفتح التفرّع السردي الباب لإمكانات عديدة، مما يشجع على إعادة المشاهدة لاكتشاف النهايات المختلفة، وبالتالي يطيل زمن المشاهدة ويزيد التفاعل مع المنصة.
الجذب العاطفي المعزّز: القرار يصاحب عادة توترٍ خفيف وإحساس بالمسؤولية عن مصير الشخصيات، وهو ما يخلق انخراطًا نفسيًا أعمق.
تجارب وشركات أخرى
ليس نتفليكس وحدها من خاضت غمار التفاعلية؛ فقد سبق أن أطلقت قنوات كابل مشروع “Late Shift” عام 2017 كفيلم تحقيق بوليسي تفاعلي، وحقّق رواجًا في المهرجانات العالمية. كما أنتجت شركة “Encyclopedia Pictura” تجربة VR تفاعلية تُدعى “The Unknown Photographer” تعتمد على نظارات الواقع الافتراضي، وتتيح للمستخدم انتقاء اللقطات في بيئات ثلاثية الأبعاد. وفي اليابان، تعاونت بعض الاستوديوهات مع شركات الألعاب لدمج عناصر اللعب في الأفلام التفاعلية.
الفرص الإبداعية والتقنية
نموذج سردي ثنائي البُعد: يتيح للمخرجين والمُلحنين تكييف الموسيقى والإضاءة وفقًا لخيارات المشاهد، فتزداد ثراءً وتنوعًا.
التكامل مع البيانات الضخمة: يمكن تحليل نمط اختيارات الجمهور لتطوير قصص مستقبلية تلبي أذواقًا محددة أو حتى تخصيص تجربة تفاعلية وفقًا لمنطقة أو فئة عمرية معينة.
الذكاء الاصطناعي ومستقبل التفاعل: مع تقدم قدرات الذكاء الاصطناعي، يمكن توظيف نماذج لغوية متقدمة لتوليد حوارات بديلة أو مشاهد جديدة ديناميكيًا استنادًا إلى اختيارات المشاهد وسياق القصة، ما يجعل تجربة أكثر سلاسة وثراءً.
التحديات والعقبات
تكلفة الإنتاج: فيديوهات متعددة المسارات تتطلب كتابة نصوص وأداء تمثيلي وتحرير ومونتاج لكل مسار، مما يرفع ميزانيات الإنتاج إلى مستويات تفوق العمل السينمائي التقليدي.
التعقيد التقني: يحتاج البث التفاعلي إلى بنية تحتية رقمية قادرة على استيعاب الانتقالات السلسة وضغط البيانات دون انقطاع، وهو تحدٍ منصات البث الناشئة قد تجد صعوبة في مجاراته.
التجربة الجماعية: أحد أهم أوجه السينما هو المتعة الجماعية في صالة العرض؛ لكن التفاعلية تعتمد على خيارات فردية. قد يصعب تنسيق قرار جماعة من المشاهدين في السينما التقليدية.
التماسك القصصي: قد تصبح القصص مجزّأة وتفقد حيويتها الدرامية إذا توفرت مسارات متفرّعة كثيرة بدون بُنية سردية موحدة تضمن قوة حبكة أساسية.
السينما التفاعلية في الصالات — هل تتحقق؟
حتى الآن، يختص العرض التفاعلي بالمنصات الرقمية التي يملك فيها المشاهد جهاز تحكّم؛ ويصعب تعميمه في دور العرض السينمائية التي تعتمد على شاشة واحدة وجمهورٍ مشترك. لكن هناك تجارب هاتفية تُستخدم في عروض حية موسيقية أو مسرحية، حيث يصوت الحضور عبر تطبيق على سيناريو العرض. وقد ترسم هذه النماذج طريقًا جزئيًا لتطبيق التفاعلية في السينما التقليدية مستقبلاً؛ كأن تُوزَّع أجهزة تحكم للمشاهدين أو يُستغلّ تطبيق الموبايل للتصويت الجماعي على النقاط الحرجة في الفيلم.
هل السينما التقليدية في خطړ؟
لا يبدو أن الأفلام التفاعلية ستحلّ بالكامل محل السينما الكلاسيكية، بقدر ما ستُكمل المشهد بتجربة جديدة هي نتاج دمج السرد واللعب والجمهور. فالسينما العميقة التي تعوّدنا عليها تلبّي حاجة جمالية وخيالية خاصة لا تلغىها التفاعلية، بل ربما تتشعب إلى أنواعٍ عديدة:
السينما الاحتفالية: عروضها المخرجة القائمة على الجماليات الثابتة، حيث يتفرّغ الجمهور للتأمل الفني.
السينما التشاركية: التجارب التي تجمع بين قرار المشاهدين وتفاعلهم مع المحتوى.
تمثل الأفلام التفاعلية مرحلة واعدة في تطوّر صناعة السينما، إذ تجمع بين حرية المشاهد وسحر السرد السينمائي. ومع ازدياد القدرات التقنية ودعم المنصات الرقمية واستكشاف صالات العرض لأساليب تفاعلية جديدة، ربما نشهد في العقد القادم نمطًا من السينما الهجينة، حيث لا يكون دورنا متلقّيًا فحسب، بل شريكًا في رسم التفاصيل الدرامية والعاطفية لرحلة المشاهدة.