خيبة أمل المعزين من ثقافة التقاط صور السيلفي في جنازة البابا

خيبة أمل المعزّين من ثقافة التقاط صور السيلفي في جنازة البابا: صراع بين العصر الرقمي وهيبة المقدّس
السيلفي والحزن: عندما تصبح الذاكرة الرقمية عدوة للمشاعر الإنسانية
في الخامس من يناير 2023، اجتمع آلاف المؤمنين في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان لتوديع البابا بندكت السادس عشر، في جنازة تاريخية طغى عليها طابع الحداد. إلا أن ما أثار دهشة المراقبين لم يكن حجم الحشود، بل انتشار الهواتف الذكية المرفوعة لالتقاط صور سيلفي مع خلفية الچنازة، وهو سلوك أثار سخطًا واسعًا بين الحاضرين.
تقول ماريا كلوديا (65 عامًا)، إحدى المعزيات القادمات من إيطاليا: "شعرتُ أن البعض جاء ليُوثّق وجوده، لا ليشارك في الصلاة... كأن المۏت تحوّل إلى فرصة للظهور". هذه المشاعر تعكس تناقضًا صارخًا بين الرغبة في توثيق اللحظة عبر الصور وفقدان العمق العاطفي الذي يُفترض أن تُخلّده المناسبات الدينية.
من القداسة إلى الفيروسية: كيف تهدر الصور الذاتية قيمة الطقوس الدينية؟
لم تكن جنازة البابا بندكت السادس عشر حدثًا معزولًا، بل حلقةً ضمن سلسلة من السلوكيات الرقمية المٹيرة للجدل. ففي عام 2019، انتقدت الكنيسة الكاثوليكية زوار كنيسة السيستين لالتقاطهم صورًا مع لوحة "الخلق" لمايكل أنجلو خلال قداس جنائزي.
اللافت هنا هو تحوُّل الأماكن المقدسة إلى "خلفيات جذابة" لصور السيلفي، وهو ما يُضعف هيبة الطقوس الدينية، وفقًا لتحليل الدكتورة شيري توركل، خبيرة السلوك الرقمي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "الهوس بالتوثيق الفوري يُحوّل التجارب الإنسانية إلى سلع استهلاكية... حتى المۏت لم يسلم من هذا الانتهاك".
بين جيلَيْن: صراع القيم في عصر الهواتف الذكية
مقارنة بين جنازتَيْ بابا:
جنازة البابا يوحنا بولس الثاني (2005): شارك فيها أربعة ملايين شخص، وكانت الهواتف الذكية نادرة، وكان التركيز منصبًّا على الصلاة الجماعية.
جنازة البابا بندكت السادس عشر (2023): سجلت منصات مثل إنستغرام وتيك توك 15,000 صورة سيلفي خلال يوم واحد تحت وسم #PopeBenedictXVI.
هذا التحول لا يعكس مجرد تطور تكنولوجي، بل يكشف عن صراع قيمي بين جيلين: جيل يرى في التوثيق الرقمي حقًّا شخصيًّا، وآخر يعتبره انتهاكًا لقدسية المۏت.
هل نحن أمام جيل يفضّل "الإعجابات" على الدموع؟ تحليل نفسي لسلوك السيلفي
بحسب استطلاع أجرته منظمة الإتيكيت الرقمي (2023)، فإن 68% من المشاركين يرون أن التقاط السيلفي في الجنازات "سلوك غير لائق"، بينما يعتبره 22% "حقًّا فرديًّا".
لكن لماذا يصر البعض على هذا السلوك رغم الانتقادات؟
السعي وراء الاعتراف الاجتماعي: وفقًا لعلم النفس الرقمي، يربط الشباب بين عدد "الإعجابات" وقيمة التجربة الشخصية.
فقدان الحدود بين الخاص والعام: حيث يخلط البعض بين التوثيق الشخصي وتحويل الأحداث العامة إلى مساحة للعرض.
الفاتيكان في مواجهة العصر الرقمي: إجراءات مقترحة لحماية قدسية المناسبات
ردًّا على الجدل، بدأت الكنيسة الكاثوليكية بدراسة إجراءات لضبط استخدام التكنولوجيا خلال الطقوس، منها:
مناطق خالية من السيلفي: على غرار متاحف اللوفر التي تمنع التصوير أمام لوحة الموناليزا.
حملة #احترم_القداسة: تهدف إلى تذكير الزوار بآداب السلوك في الأماكن الدينية.
تقييد بث الفيديو المباشر: خلال الأحداث الحساسة مثل الجنازات.
غير أن هذه المقترحات تواجه تحديات، أبرزها صعوبة فرض قواعد صارمة في عصر تتحكم فيه التكنولوجيا بكل تفاصيل الحياة.
السيلفي كـ"تذكار": بين توثيق الذاكرة وانتهاك الحرمة
يدافع بعض مؤيدي التصوير عن حقهم في "تخليد الذكرى"، مستندين إلى أن الصور أصبحت جزءًا من سردية التاريخ الشخصي. إلا أن الخبراء يحذرون من اختزال التجارب الإنسانية في "لقطات سريعة"، خصوصًا في المناسبات الحزينة التي تتطلب تفاعلًا جماعيًّا عميقًا.
تقول الباحثة الاجتماعية د. فاطمة الزهراء: "المشكلة ليست في الصور ذاتها، بل في تحويل المۏت إلى فرصة للتأثير البصري... وهذا يُفقد الإنسان قدرته على التعاطف".
منصات التواصل الاجتماعي: محفّز أم مدمّر لثقافة الاحترام في الجنازات؟
لا يمكن فصل ظاهرة "سيلفي الجنازات" عن دور منصات مثل تيك توك وإنستغرام، التي تدفع المستخدمين إلى تحويل كل لحظة إلى محتوى قادر على الانتشار. وخلال جنازة البابا، حققت مقاطع الفيديو المصوّرة في خلفية الحدث ملايين المشاهدات، مما شجع على تكرار السلوك.
لكن النقاش الأهم هنا: هل يمكن لهذه المنصات أن تكون جزءًا من الحل؟
بعض المبادرات بدأت بالفعل، مثل تحذيرات "تيك توك" من نشر محتوى غير لائق خلال الأحداث الحزينة.
كما طُرح مقترح بإنشاء "أيام افتراضية للحداد" تُلزم المستخدمين بضوابط أخلاقية.
خاتمة: هل نحتاج إلى "إتيكيت رقمي" للأحداث الدينية؟
الجدل حول سيلفي الجنازات ليس مجرد صراع بين التكنولوجيا والتقاليد، بل اختبار لقدرة المجتمعات على تطوير أخلاقيات عصرية تحفظ للإنسان جوهر مشاعره. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: "المۏت هو الفرصة الأخيرة لنا كي نكون بشرًا"... ربما حان الوقت لتذكُّر هذه الحقيقة قبل أن نرفع هواتفنا نحو السماء.