الحيوانات تطور مهارات جديدة بسرعة هل هي استجابة لتغير المناخ أم تطور قسري؟

تشهد السنوات الأخيرة تزايداً في رصد حالات تطورٍ سريعٍ لدى الحيوانات، يظهر في ظهور مهارات وسلوكيات جديدة خلال أجيال قليلة أو حتى خلال حياة فردٍ واحد. من استخدام الأخطبوطات للأصداف حفاظاً على أجسادها، إلى تغيّر ألوان بعض الحشرات للتكيف مع درجات الحرارة العالية، بات واضحاً أن الأنظمة البيئية المتغيرة تفرض ضغوطاً انتقائية عالية تدفع الأنواع إلى التكيف بسرعة غير متوقعة. وقد جمع مشروع Proceed بيانات عن أكثر من 200 حالة تطور سريع ناجمة عن الأنشطة البشرية، مما يؤكد انتشار هذه الظاهرة في مختلف الأنظمة البيئية
أمثلة على اكتساب مهارات جديدة
استخدام الأدوات في الأخطبوطات والطيور
كشفت مقالات حديثة كيف يستغل الأخطبوط أصداف المحار والأشياء الصغيرة للتنقل والحماية، بينما تتعلم بعض الغربان استخدام السيارات لسحق المكسرات وفتحها ﴾مثال شائع في أستراليا﴿. يعزى اكتشاف هذه السلوكيات الجديدة جزئياً إلى توثيق الغُزاة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح للباحثين تتبع مقاطع الفيديو والصور المنشورة حول العالم ودراستها ضمن إطار المعلومات الرقمية ﴾Information Ecology﴿ لتسليط الضوء على سلوكيات كانت غامضة سابقاً
تغيّرات لونية وسلوكية
في دراسة وُثّقت حالات اكتساب حشرات اليعسوب لوناً أفتح لتقليل امتصاص الحرارة، كما بدأت نباتات الخردل في الازهار مبكراً للاستفادة من ذوبان الثلوج المُبكر، وسُجلت سحالي تطوّرَت لديها قدرة على تحمل برودة عالية بعد موجات صقيع مفاجئة
تعديل جداول الهجرة
يبيّن بحث حديث في مجلة Evolution Letters استجابة طيور بحرية لتغيرات منسوب البحر ودرجات الحرارة، حيث سجّل الباحثون تقدماً في موعد هجرة الربيع بمقدار يصل إلى أسبوعين خلال أقل من ثلاثين عاماً، ما يعكس استجابة تطورية ميكرويّة نشأت من تداخل التغير المناخي مع الاختيار الطبيعي
آليات التكيف: بلاستيكيّة vs تطوّر جيني
ينشأ التكيف السلوكي سريعاً غالباً عن المرونة الفينوتيبية (Phenotypic Plasticity) التي تتيح للفرد تغيير سلوكه أو شكله استجابةً مباشرة للبيئة، قبل أن تثبت هذه التغييرات جينياً عبر أجيال. ومن جهة أخرى، تُظهر الدراسات الوراثية أمثلة على تطور جيني متسارع يطال عدة مواقع جينومية (single‐locus، polygenic shifts) نتيجة ضغوط بشړية أو بيئية قوية. يشدد مرسيلا وهيندري (2014) على أن الفصل بين هذين المسارين ضروري لفهم قدرة الأنواع على الصمود تحت ضغط التغير السريع
تغير المناخ كقوة دافعة
كان لتغير المناخ تأثيرٌ ملموس في إعادة تشكيل البيئات الانتقائية:
أظهرت هالفس وزملاؤه (2024) أن أنواعاً من الطيور والعثّ التي تمتلك نطاقات مناخية ضيقة تميل إلى الانزياح نحو القطب الشمالي بوتيرة أكبر مقارنة بالأنواع ذات النطاقات العريضة، مما يدلّ على اختيارٍ طبيعيٍّ ينتج استجابات تطورية سريعة لتغير درجة الحرارة والرطوبة
تؤدي الموجات الحرارية الشديدة والعواصف المتطرفة إلى اختبارٍ إرادي للأفراد، فالبقاء للأكثر تحملاً، ويحمل ذلك بصمات اختيارية قائمة على جينومات الأفراد القادرين على الصمود.
“التطور القسري” بفعل الأنشطة البشرية
إلى جانب المناخ، تفرض الأنشطة البشرية ضغوطاً صناعية وزراعية وحضرية:
في البيئات الحضرية الملوثة، طوَّرت أسماك كيليفيش الاطلسي مقاومة لسموم المصانع في خليج نيوارك، بمعدل تطور جيني فاق التوقعات المعتمدة على الأصول التطورية التقليدية
يوضح مشروع Proceed أن الصيد الجائر والتلوث وإزالة الغابات حفّزت تطورات فيزيائية وسلوكية عديدة، مثل صغر حجم الأسماك وفرط سرعة التناسل كآليات للبقاء تحت الضغط البشري
النقاش العلمي: إلى أين تقودنا السرعة؟
يتباين العلماء بين من يرى في هذه التغييرات استجابة مناخية طبيعية ضمن مسار التطور، وبين من يعتبرها تطوراً قسرياً ناجماً عن ضغوط بشړية غير متجانسة.
البلاستيكية الفينوتيبية تظهر كآلية أولية تستجيب بسرعة، وقد تحوّل لاحقاً إلى تغييرات جينية ثباتية.
الاختيار القسري من خلال الصيد والتلوث والبناء الحضري قد يُحدث تحولات تجعل بعض الأنواع أكثر هشاشة على المدى الطويل؛ فالمهارات المكتسبة تحت ضغط قسري أقل استدامة من تلك الناتجة عن استجابة بطيئة ومتوازنة.
يتطلب هذا الجدل دمج دراسات جينية وسلوكية وبيئية طويلة الأمد لتحديد مكونات كل ظاهرة وحدودها.
إن التطور السريع للمهارات والسلوكيات لدى الحيوانات ليس ظاهرة أحادية الجانب. فبينما يشكل التغير المناخي محرّكاً طبيعياً لاختبار قدرات التحمل والتكيف، يفرض الضغط البشري مسارات قسرية لا تخلو من مخاطر على استدامة الأنواع. ومن أجل حماية التنوع الحيوي وتوقع مستقبل الأنظمة البيئية، لا بدَّ من تعميق الحوار بين علم تطور الأحياء، البيولوجيا الجزيئية، وعلم السلوك، مع الاعتماد على بيانات ميدانية وجينومية طويلة الأمد تُظهر كيف تتفاعل هذه القوى معاً لإعادة تشكيل قدرات الحياة على كوكبنا.