شيخ الأزهر: البابا فرانسيس رحل مدافعاً عن الإنسانية

في وداع رجل السلام البابا فرنسيس كما رآه شيخ الأزهر
في لحظات نادرة من تاريخ الإنسانية تتقاطع دروب القادة الروحيين لتكتب قصة استثنائية تتجاوز الدين و الجغرافيا و اللغة لتلمس جوهر الإنسان ذاته. من بين هذه القصص المضيئة تلك التي جمعت بين الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب و البابا فرنسيس بابا الفاتيكان الراحل و التي شكلت نموذجا نادرا في الحوار الإنساني و الديني على حد سواء.
و مع إعلان خبر ۏفاة البابا فرنسيس خرج شيخ الأزهر برسالة مفعمة بالحزن و الامتنان راثيا فيها رجلا وصفه بالأخ العزيز و بالمدافع الحقيقي عن كرامة الإنسان لتتردد كلماته في أرجاء العالم مٹيرة موجة من التأمل و الإعجاب بهذه العلاقة الفريدة.
أبعد من البروتوكولات
لم تكن علاقة الإمام الطيب بالبابا فرنسيس مجرد لقاءات دبلوماسية تلتقط لها الصور و تكتب عنها البيانات. بل كانت علاقة حقيقية عميقة الجذور مبنية على التقدير المتبادل و الهدف المشترك الدفاع عن الإنسان بغض النظر عن عقيدته أو خلفيته. و قد برز هذا في أكثر من مناسبة كان أهمها في توقيعهما التاريخي على وثيقة الأخوة الإنسانية في أبوظبي عام 2019 التي دعت إلى السلام العالمي و التعايش بين الأديان.
البابا فرنسيس لم يكن زائرا تقليديا للأزهر أو ضيفا عابرا في مؤتمرات حوار الأديان بل كان شريكا فكريا وروحيا لشيخ الأزهر في مواجهة نزعات الكراهية و التطرف و الصراعات العبثية التي مزقت البشرية.
البابا الذي مشى بين الفقراء
عرف البابا فرنسيس بتواضعه الاستثنائي و حرصه على البعد الإنساني في عمله الكنسي. لم يكن بابا الفاتيكان كما اعتاده الناس فقط بل كان رجلا يسير بين البسطاء يربت على كتف المسكين و يغضب لكرامة اللاجئ و يصلي من أجل المضطهدين. وقد لمس شيخ الأزهر هذا البعد الإنساني في شخصية البابا فرأى فيه ضميرا حيا في زمن كثرت فيه الضمائر الغائبة.
و مما قاله الإمام الطيب في نعيه المؤثر رحل عن عالمنا أخي و صديقي العزيز البابا فرنسيس الإنسان الذي لم يهادن في الحق و لم يساوم في العدالة بل جعل من إنسانيته رسالة للعالم أجمع.
كلمة شيخ الأزهر... و مغزى اللحظة
حين ينعي قائد ديني كبير مثل شيخ الأزهر نظيره من ديانة أخرى بهذا الشكل العاطفي و العميق فإننا لا نتحدث هنا عن مجاملة دبلوماسية بل عن شهادة حقيقية على أثر رجل اختار أن يكون جسرا لا حاجزا صوتا لا صدى يدا تمتد لا تقبض.
في كلماته حرص شيخ الأزهر على إبراز النقاط التي ميزت البابا فرنسيس مواقفه الواضحة تجاه القضايا الإنسانية و إلى دعواته للسلام و مواقفه المناهضة للعڼف و رفضه المبدئي لاستخدام الدين ذريعة للعدوان.
من الأخوة الإنسانية إلى وصايا الوداع
وثيقة الأخوة الإنسانية كانت تتويجا لمسيرة طويلة من النضال الروحي الذي خاضه الرجلان معا. و قد مثلت هذه الوثيقة لحظة مفصلية لا على مستوى العلاقة بين الأزهر و الفاتيكان فقط بل على مستوى الفكر الإنساني ذاته. فقد وضعت الخطوط العريضة لعالم يتسع للجميع و أرست دعائم حوار حقيقي بين المسلمين و المسيحيين بل بين الإنسان و الإنسان.
و اليوم بعد رحيل البابا تعود هذه الوثيقة لتقرأ بنظرة جديدة. لقد كانت بشكل ما وصية وداع أو نداء أخيرا من رجل أدرك أن الأرض لا تحتمل مزيدا من الډماء بسبب الأديان وأن الزمن قد حان لثورة على العداء التاريخي المتراكم.
إرث لا يمحى
ربما رحل البابا فرنسيس جسدا لكن إرثه سيبقى محفورا في ذاكرة العالم. سيذكر بأنه أول بابا يفتح أبواب الفاتيكان على مصراعيها للحوار الحقيقي و سيذكر أنه وقف إلى جانب الجميع والمشردين و أنه ناصر حقوق المرأة و الفقراء وسعى ليعيد للكنيسة دورها الأخلاقي و الإنساني في عالم ينهشه الطمع و الفرقة.
أما في ذاكرة شيخ الأزهر فسيظل فرنسيس الأخ الذي لم تلده أمه و الرفيق في طريق النور كما وصفه ذات مرة.
ختاما ما بعد الرحيل
السؤال الآن هو ماذا بعد هل ستستمر روح الأخوة الإنسانية التي رسخها الرجلان هل ستتجدد هذه المسيرة بأيد جديدة مؤمنة بذات القيم الإجابة مرهونة بنا نحن من قرأنا هذه القصة و تأثرنا بها و آمنا أن الحوار ليس ضعفا بل قوة وأن التلاقي ليس خېانة لله بل تأكيد على حضوره في قلوب الجميع.
إن ۏفاة البابا فرنسيس ليست نهاية بل بداية لوعي عالمي جديد لعله يرى في تلك اللحظة التي رثى فيها شيخ الأزهر صديقه البابا نقطة ارتكاز نحو مستقبل أكثر عدالة و رحمة و سلاما.