كهف ألتاميرا في إسبانيا: متحف الفنون الأول في التاريخ

موقع أيام تريندز

كهف ألتاميرا في إسبانيا: متحف الفنون الأول في التاريخ

مقدمة

. يعود تاريخ رسوماته إلى العصر الحجري القديم الأعلى (ما بين 35,000 إلى 15,000 سنة مضت)، وتحديدًا إلى حضارة الكرومانيون، أسلاف الإنسان الحديث في أوروبا. يقدم هذا الكهف لمحة فريدة عن الإبداع البشري القديم، حيث تُزين جدرانه وسقوفه لوحات حيوانية مذهلة تُظهر براعة فنية غير متوقعة لتلك الفترة.

اكتشاف الكهف وأهميته التاريخية

الاكتشاف الأولي

اكتُشف كهف ألتاميرا بالصدفة في عام 1868 على يد صياد محلي، لكن العالم لم يُدرك قيمته الفنية إلا بعد سنوات. في 1879، قام النبيل الإسباني وعالم الآثار الهاوي مارسيلينو سانز دي ساوتولا بزيارة الكهف برفقة ابنته الصغيرة ماريا. بينما كان ساوتولا يفحص الأرضية بحثًا عن أدوات حجرية، لاحظت ماريا رسومات حيوانات على السقف وصاحت: "انظر، أبي، ثيران!".

الجدل العلمي الأول

عندما نشر ساوتولا نتائج اكتشافه، واجه رفضًا شديدًا من المجتمع العلمي الأوروبي. اعتبر العديد من الخبراء أن البشر "البدائيين" غير قادرين على إنتاج فن بهذا التعقيد. اتُهم ساوتولا بالتزوير، ولم يُعترف بأصالة الرسومات إلا بعد اكتشاف كهوف أخرى مماثلة في فرنسا (مثل لاسكو وشوفيه) في أوائل القرن العشرين.

الوصف الجيولوجي والفني للكهف

هيكل الكهف

يقع كهف ألتاميرا في منطقة كانتابريا شمال إسبانيا، ويتميز بتكوينه الجيولوجي الذي يعود إلى العصر الحجري الجيري. يتكون من عدة قاعات، أشهرها:

القاعة الكبرى (Sala de Polícromos): حيث تتركز معظم الرسومات الملونة.

الممرات الجانبية: تحتوي على نقوش أقل وضوحًا لكنها مهمة لفهم تطور الفن الصخري.

التقنيات الفنية المستخدمة

استخدم فنانو ألتاميرا تقنيات متطورة لتنفيذ رسوماتهم:

الاستفادة من تموجات السقف: حيث نحتوا بعض المناطق لإبراز أحجام الحيوانات.

الألوان الطبيعية: استخرجوا الصبغات من:

الأحمر (أكسيد الحديد).

الأسود (الفحم أو المنغنيز).

الأصفر (الليمونيت).

الظلال والحركة: بعض الحيوانات مرسومة بأرجل متعددة لتحاكي الحركة، مما يُظهر فهمًا بدائيًا للرسوم المتحركة!

الموضوعات الفنية

تُمثل رسومات ألتاميرا حيوانات العصر الجليدي، ومن أبرزها:

الثيران البرية (Bison) – أشهر لوحات الكهف، بعضها بطول مترين!

الخيول والغزلان.

الخنازير البرية.

علامات غامضة (أشكال هندسية قد تكون رموزًا روحانية).

الأهمية الأنثروبولوجية

نافذة على عقلية الإنسان القديم

لا تُعتبر رسومات ألتاميرا مجرد "فن للفن"، بل يُرجح أن لها أغراضًا:

طقوس الصيد: لتعزيز نجاح عمليات الصيد عبر التمثيل السحري.

الرمزية الدينية: قد تكون جزءًا من معتقدات ما وراء الطبيعة.

التعليم: نقل المعرفة حول الحيوانات الخطړة.

دليل على التطور المعرفي

تُظهر دقة الرسومات أن إنسان العصر الحجري كان:

يُخطط مسبقًا (بعض اللوحات استغرقت أيامًا لإكمالها).

يفهم التشريح (الحيوانات مرسومة ببراعة تشريحية).

يمتلك حسًا جماليًا (استخدام الألوان والتظليل).

التحديات والحفاظ على الكهف

إغلاق الكهف أمام الجمهور

بعد افتتاحه للسياح في القرن العشرين، تعرض الكهف لتهديدات بسبب:

تنفس الزوار: زيادة الرطوبة وثاني أكسيد الكربون تسببت في نمو الأعشاب على الجدران.

الإضاءة الصناعية: التي أدت إلى تغير الألوان.
لذلك، أُغلق الكهف أمام العامة في 2002، وتم بناء نسخة طبق الأصل (متحف ألتاميرا الوطني) بجواره.

التقنيات الحديثة للحفظ

يُراقب الكهف الآن بأجهزة استشعار لل:

درجة الحرارة.

الرطوبة.

مستويات CO₂.
كما تُستخدم تقنيات الليزر والتصوير ثلاثي الأبعاد لدراسة الرسومات دون لمسها.

ألتاميرا والتراث العالمي

أدرجت اليونسكو كهف ألتاميرا ضمن قائمة التراث العالمي في 1985، ثم وسعت التصنيف في 2008 ليشمل 17 كهفًا آخر في منطقة كانتابريا. اليوم، يُعتبر الموقع رمزًا للهوية الثقافية الإسبانية والإنسانية جمعاء.

خاتمة

كهف ألتاميرا ليس مجرد مجموعة من الرسومات القديمة، بل هو شهادة على الإبداع الإنساني الأول. يعيدنا هذا الكهف إلى لحظة فارقة في التاريخ، عندما حوّل الإنسان جدران الكهوف المظلمة إلى لوحات تُخلد رؤيته للعالم. رغم إغلاقه، تبقى رسوماته نافذة ساحرة على عقلية أسلافنا، وتذكيرًا بأن الفن هو أحد أقدم وأقوى لغات البشرية.

"ألتاميرا هي كاتدرائية ما قبل التاريخ، حيث عبّر الإنسان عن أولى انفعالاته الجمالية والدينية." — خوسيه أنطونيو لاسيردا، عالم آثار.