معارض للفنانين مارك والينجر وآني كوليير

تجليات الهوية والواقع: رحلة بصرية في أعمال مارك والينجر وآني كوليير
في عالم الفن المعاصر، لا يقتصر الإبداع على عرض الجمال فحسب، بل يتعداه ليصبح وسيلة لفهم الذات والعالم من حولنا. ضمن هذا السياق، تأخذنا أعمال الفنانين مارك والينجر (Mark Wallinger) وآني كوليير (Anne Collier) في رحلة بصرية واستفهامية تتجاوز الأطر التقليدية للفن، لتغوص في أعماق الهوية، الإدراك، والذاكرة.

مارك والينجر: السياسة، الدين، والذات في فضاء تعبيري
يُعد مارك والينجر واحداً من أبرز الفنانين البريطانيين الذين استطاعوا توظيف الفن كأداة نقدية لفهم العلاقات بين الفرد والمجتمع. في معارضه الأخيرة، برز والينجر بأسلوبه المفاهيمي الذي يجمع بين الرمزية والواقعية، حيث يتناول قضايا وجودية وسياسية بعمق فني لافت.
أحد أبرز أعماله التي عرضها مؤخراً هو "State Britain"، وهو تركيب فني يستعيد احتجاجات الناشط برايان هاوث أمام البرلمان البريطاني. العمل لا يُقدم مجرد إعادة تمثيل لواقع سياسي، بل يعكس صراع الفرد مع السلطة، ويطرح تساؤلات حول حدود الحرية والتعبير. استخدم والينجر التكرار والانعكاس كوسائل لتقويض السرديات الرسمية، فكانت مرآته الفنية بمثابة نقد بصري للأطر القانونية والسياسية.

كما أن استخدامه المتكرر لصور الخيول، كما في عمله "A Real Work of Art"، يشير إلى اهتمامه بدراسة الرموز الثقافية والدينية. والينجر لا يكتفي بتقديم صور مٹيرة للتأمل، بل يغوص في الميثولوجيا، والهوية، والتاريخ، ليخلق تجربة فنية تستفز الذاكرة الجماعية.
آني كوليير: بين الكاميرا والنظرة… من يحكم من؟
على الطرف الآخر من الطيف الفني، تأتي الفنانة الأمريكية آني كوليير بأسلوبها الفوتوغرافي المميز، الذي يتسم بالبساطة في الشكل والعمق في المضمون. تتناول كوليير في معارضها مفاهيم النظرة، النوع، والتأطير، متسائلة عن علاقة المرأة بالصورة، وعن سلطة الكاميرا في تشكيل الإدراك.
في إحدى أبرز مجموعاتها، استخدمت كوليير صوراً أرشيفية لمجلات قديمة تظهر نساء ينظرن من خلال الكاميرا، أو يستخدمنها. ما يبدو في البداية كصورة جامدة، يتحول تحت عدسة كوليير إلى تعليق ساخر على تاريخ تمثيل المرأة في الإعلام، وتحرير للأنثى من سجن الصورة النمطية.
لا تستخدم كوليير تقنيات معقدة، بل تتعمد البساطة والتركيز على التكوين، مما يضفي على أعمالها طابعاً تأملياً. كما أنها تترك مساحات من الصمت البصري، تدعو المتلقي للتفكير في ما هو مرئي، وفي ما هو مسكوت عنه.
التقاء غير مباشر: مفاهيم تتقاطع رغم الاختلاف
رغم اختلاف أدوات التعبير والمرجعيات بين والينجر وكوليير، إلا أن ما يجمعهما هو السعي لتفكيك الأنظمة الرمزية التي تشكل وعينا. الأول يستخدم التكرار والرمز والتاريخ ليقوّض السلطات المجتمعية، بينما تستخدم الثانية الصورة الساكنة والرمزية لتكشف عن التحيزات البصرية والثقافية.
يمثل كل معرض من معارض هذين الفنانين دعوة للتأمل في علاقتنا بالسلطة، بالنظرة، وبالهوية. إنهما لا يقدمان أجوبة، بل يفتحان أبواب الأسئلة، في تجربة فنية لا تقتصر على التذوق، بل تمتد لتصبح شكلاً من أشكال المقاومة البصرية والتفكير الحر.