الأربعاء 23 أبريل 2025

سمكة الشصية الزراعية: المخلوق القادر على الصيد في الظلام

موقع أيام تريندز

سمكة الشّصية الزراعية: صيّادة الظلام التي تُدهش العلماء

كائن أعماق يحترف التمويه ويصطاد في عتمةٍ تامة باستخدام فخ بيولوجي خارق

في أعماق المحيط، حيث لا تصل أشعة الشمس، وحيث تحكم العتمة قوانين البقاء، تتربّع سمكةٌ صغيرة بحجم راحة اليد على عرش الصيد المتقن. إنها سمكة *الشصية الزراعية* أو ما تُعرف علميًا باسم Lasiognathus, إحدى أعجب المخلوقات البحرية التي حيّرت العلماء بقدرتها الاستثنائية على صيد فريستها في ظلامٍ دامس باستخدام "مصيدة مضيئة" لا مثيل لها في عالم الحيوان.

 صيّادة لا تُقارن

تنتمي سمكة الشصية الزراعية إلى عائلة *الأنكليفيات (Anglerfish)*، وهي فصيلة مشهورة باستخدامها طُعمًا ضوئيًا يتدلّى من رأسها، لكنها تتميّز عن باقي أقاربها بتعقيد جهازها الصيّاد، الذي يُشبه صنارة صيد تتدلّى من جبهتها وتنتهي بعضة قاټلة. هذا الجهاز يُعرف بـ"الشَص"، ويُعد من أذكى أساليب التمويه الحيوي في مملكة الحيوانات.

يقول عالم الأحياء البحرية الدكتور "ناثان كرين" من جامعة كاليفورنيا:  
"هذه السمكة تمتلك قدرة على محاكاة حركات كائنات بحرية صغيرة باستخدام الشّص الذي يلمع بضوء أزرق بفضل تفاعلات كيميائية بداخل جسدها. ما أن تقترب الضحېة المذهولة، تنقض عليها بفكٍ قابل للتوسّع بشكل مرعب."

حياة في الأعماق

تعيش سمكة الشصية الزراعية في أعماق تتجاوز الـ1000 متر تحت سطح البحر، في مناطق تُعرف باسم المنطقة المظلمة (aphotic zone)، حيث تنعدم تقريبًا مصادر الضوء الطبيعي، وتقل الموارد بشكل حاد. لذلك، فإن أي تطور يُمكن أن يزيد فرص النجاة يُعد ميزة تنافسية، وسمكة الشصية الزراعية اختارت أن تُتقن الصيد بدلاً من الهرب.

وقد أظهرت الدراسات أن هذه السمكة تعتمد على أسلوب "كمين فوري"، إذ تظل ساكنة لفترات طويلة، ثم تهاجم بسرعة خاطفة عند اقتراب الفريسة. المفاجأة؟ فمها قادر على الاتساع لابتلاع فريسة بحجم يقارب ضعف حجمها.

 أنثى صيّادة وذكرٌ طفيلي!

ربما تكون أغرب مفارقة في حياة هذه السمكة هي علاقتها الزوجية. فالأنثى هي المخلوق الوحيد الذي يملك الشّص، وتتحمّل مسؤولية الصيد والبقاء، أما الذكر، فمجرد كائن صغير يتطفل على جسدها!  
عند التزاوج، يلتصق الذكر بجسم الأنثى ويفقد مع الوقت معظم وظائفه الحيوية، باستثناء التخصيب. يتحوّل إلى ما يُشبه العضو التكاثري الدائم. هذا الأسلوب الفريد يضمن بقاء النوع في بيئة نادرة التلاقي.

 اكتشاف حديث ومزيد من الأسئلة

رغم أن أولى مشاهدات هذه السمكة تعود إلى أوائل القرن العشرين، إلا أن العلماء لم يتمكّنوا من دراسة سلوكها الحقيقي إلا مؤخرًا، بفضل تطور تقنيات الغوص الآلي والكاميرات ذات الإضاءة المنخفضة.

وفي عام 2023، تمكّن فريق بحثي بقيادة معهد أبحاث المحيطات في موناكو من تصوير سلوك الصيد الكامل لهذه السمكة في بيئتها الطبيعية، الأمر الذي أدهش المختصين. وقد قال الباحث الرئيسي:  
"ما شهدناه كان أقرب إلى الخداع المسرحي، الشّص كان يتحرك مثل مخلوق منفصل، بينما بقيت السمكة شبه ساكنة... ثم فجأة، انقضّت في جزء من الثانية."

ماذا تخبرنا سمكة الشصية عن الحياة في الكواكب الأخرى؟

بعيدًا عن غرابتها، يرى بعض العلماء أن دراسة هذه الكائنات قد تساعد في فهم احتمالات وجود حياة في أماكن مظلمة من الكون، مثل محيطات الأقمار الجليدية (كـ"أوروبا" التابع للمشتري). فإذا كانت الحياة قادرة على الازدهار في أعماق الأرض دون ضوء، فقد تكون قادرة على التكيّف في بيئات مشابهة في عوالم بعيدة.

في النهاية، تظل سمكة الشصية الزراعية مثالًا ساحرًا على براعة الطبيعة في تطويع الظروف القاسېة لصالح البقاء، ودليلًا حيًا على أن أعماق البحار لا تزال تخبئ أسرارًا أعظم من الخيال.

هل سنتمكن يومًا من كشف كامل أسرار هذا المخلوق؟ العلم في طريقه، والدهشة مستمرة.