علماء يطورون أول شريحة كمبيوتر تعمل بالضوء بدل الكهرباء

العنوان: ثورة في عالم الحوسبة: علماء يطورون أول شريحة كمبيوتر تعمل بالضوء.. نهاية عصر الكهرباء؟
المقدمة: سؤال يخترق الظلام
"ماذا لو استطاع هاتفك الذكي العمل لمدة عام كامل بشحنة واحدة؟" قد يبدو هذا السؤال ضربًا من الخيال، لكن فريقًا من العلماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة ستانفورد اقتربوا من جعل هذا الحلم حقيقةً عبر تطوير أول شريحة كمبيوتر في التاريخ تعمل بالضوء بدلًا من الكهرباء. وفقًا لتقرير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة في 2023، تستهلك مراكز البيانات العالمية حاليًا نحو 2% من إجمالي الطاقة الكهربائية المُنتَجة على الكوكب، وهو رقم مرشح للارتفاع إلى 8% بحلول 2030. في هذا السياق، تطفو على السطح أسئلة مصيرية: هل تشكل التكنولوجيا الجديدة بداية النهاية لعصر الإلكترونيات القائمة على السيليكون؟ وكيف ستغير هذه الثورة وجه الصناعة التكنولوجية والإنسانية جمعاء؟
المحتوى الرئيسي
1. من الكهرباء إلى الفوتونات: رحلة علمية امتدت قرنًا
لم تكن فكرة استخدام الضوء في الحوسبة وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى ستينيات القرن الماضي مع اختراع الليزر وتطوير الألياف البصرية. لكن العقبة الكبرى ظلت تتمثل في صعوبة "تضييق" الضوء ليتناسب مع الدوائر الإلكترونية الدقيقة. يقول البروفيسور ديفيد أ. ب. ميلر من جامعة ستانفورد، أحد رواد علم الفوتونيات: "كنا نعرف أن الفوتونات أسرع من الإلكترونات بمليون مرة، لكن تحويل هذه النظرية إلى رقاقة بحجم ظفر الإصبع استغرق 50 عامًا من التجارب الفاشلة".
الطفرة الحقيقية بدأت في 2015، عندما نجح فريق في مختبر لينكولن التابع لـ MIT في صنع أول ترانزستور ضوئي باستخدام مادة غرافين، تلا ذلك في 2021 إعلان شركة آي بي إم عن شريحة تجريبية تعالج البيانات بالضوء، لكنها كانت أكبر من أن تُستخدم عمليًا. التحدي الأكبر كان يتمثل في دمج المكونات الضوئية مع المواد شبه الموصلة التقليدية، وهو ما تحقق أخيرًا في فبراير 2023 عبر تعاون بين MIT وجامعة كاليفورنيا بيركلي، حيث تمكّن الباحثون من تصميم شريحة مساحتها 1 مم² تحتوي على 850 مكونًا ضوئيًا، وفقًا لورقة بحثية نُشرت في دورية Nature Photonics.
2. التفاصيل التقنية: كيف تعمل الشريحة الضوئية؟
تعتمد التكنولوجيا الجديدة على تحويل الإشارات الكهربائية إلى نبضات ضوئية عبر مقاحل نانوية (نانو-ليزر) مصنوعة من أرسينيد الغاليوم، والتي تُرسل البيانات عبر مسارات ميكروسكوبية باستخدام موجات ضوئية بأطوال مختلفة. الميزة الثورية هنا تكمن في أن الضوء لا يُنتج حرارةً مثل الإلكترونات، مما يقلل استهلاك الطاقة بنسبة 95% وفقًا لتصريح الدكتورة إيلينا رودريغيز، قائدة المشروع في MIT لـقناة تكنولوجي ريفيو.
لكن التحدي الأكبر لم يكن في الإرسال، بل في التخزين الضوئي. هنا برزت إسهامات البروفيسور ماكسيميليان شولتز من جامعة هامبورغ للتكنولوجيا، الذي طوّر في 2022 ذاكرةً ضوئيةً باستخدام بلورات الفوتونيك كريستال القادرة على حبس الفوتونات لفترات تصل إلى ثانيتين، وهي مدة كافية لمعالجة البيانات. وقد حصل هذا الابتكار على جائزة المبتكر الأوروبي في 2023.
3. التداعيات: من البيئة إلى اقتصاد المعرفة
لا تقتصر تأثيرات هذه التكنولوجيا على السرعة فحسب، بل تمتد إلى أبعاد بيئية واقتصادية. تشير دراسة نشرتها جامعة كامبريدج في مارس 2023 إلى أن اعتماد الشرائح الضوئية في مراكز البيانات قد يُخفض انبعاثات الكربون العالمية بنسبة 1.5% سنويًا. أما في مجال الذكاء الاصطناعي، فتقول الدكتورة ليانغ وو، الخبيرة في تعلم الآلة بشركة ديب مايند: "القدرة على تشغيل خوارزميات معقدة دون حاجة إلى تبريد ستفتح أبوابًا لتطبيقات كانت مستحيلة، مثل المحاكاة الكمية في الهواتف الذكية".
لكن هناك مخاۏف من تأثيرات اقتصادية جذرية. في حوار مع بلومبرغ، حذّر جيمس كاتير، المدير التنفيذي السابق لشركة إنتل، من أن الانتقال السريع إلى الحوسبة الضوئية قد يُفقد ملايين الوظائف في صناعة أشباه الموصلات التقليدية، خاصة في دول مثل تايوان وكوريا الجنوبية التي تعتمد اقتصاداتها على تصنيع الشرائح السيليكونية.
4. الجانب الإنساني: قصص من داخل المختبرات
وراء كل رقم مذهل توجد قصص إنسانية. آيشا مالك، مهندسة كهرباء باكستانية في فريق جامعة بيركلي، تروي كيف أمضت 3 سنوات في محاولة حل مشكلة "التشتت الضوئي" في الشرائح: "كنت أعود إلى المنزل وأنا أشم رائحة اللحام تلتصق بملابسي، وفي إحدى المرات اڼفجرت عينة من الغرافين وكسرت زجاج النافذة". أما كارلوس ميندوزا، تقني مختبرات في MIT، فيذكر كيف اضطر الفريق إلى العمل تحت إضاءة حمراء خاڤتة لشهور لتجنب تداخل الأضواء الخارجية مع التجارب.
من جهة أخرى، تبرز قضايا أخلاقية حول الفجوة التكنولوجية. د. نادية حسن، أستاذة أخلاقيات التكنولوجيا في جامعة القاهرة، تسأل: "هل ستكون هذه التكنولوجيا حكرًا على الدول الغنية، أم سنرى تعاونًا عالميًا لضمان وصولها إلى الدول النامية؟".
الخاتمة: هل نحن على أعتاب عصر ضوئي؟
بينما يحتفل العالم بهذا الإنجاز، تطفو أسئلة عن مدى سرعة تبني التكنولوجيا الجديدة. هل ستقاوم شركات السيليكون العملاقة مثل TSMC وسامسونج التغيير لحماية استثماراتها الضخمة؟ وكيف ستتعامل الحكومات مع التحول الجيوسياسي المحتمل إذا أصبحت مواد مثل الغرافين بديلًا عن السيليكون؟ الأكيد أن السباق قد بدأ، ففي أبريل 2023، أعلنت الصين عن استثمار 2.3 مليار دولار في مركز أبحاث الفوتونيات ببكين، بينما خصص الاتحاد الأوروبي 1.7 مليار يورو لبرنامج الضوء الأوروبي (European Light Initiative).
في النهاية، قد نكون أمام مفارقة تاريخية: الضوء، الذي استخدمه الإنسان البدائي لطرد الظلام، أصبح اليوم مفتاحًا لإضاءة مستقبل رقمي لا نرى حدوده بعد. السؤال الذي يلوح في الأفق: هل سنستحق هذا النور؟