الأربعاء 23 أبريل 2025

جولة في أستورياس حيث تسيطر مصانع عصير التفاح في إسبانيا

موقع أيام تريندز

أستورياس مملكة التفاح و صاحبة العطر الفواح
إذا كنت تعتقد أن التفاح مجرد فاكهة تؤكل في فطور صحي أو تستخدم لصنع فطيرة في فيلم أمريكي فأنت لم تزر أستورياس بعد. هناك في شمال إسبانيا حيث تختلط رائحة البحر برائحة المروج يعلو التفاح فوق العرش ويتحول من فاكهة عادية إلى مشروب يعامل كما تعامل التحف الفنية. نعم نحن نتحدث عن السيدرا عصير التفاح المخمر الذي أصبح رمزا ثقافيا و نمط حياة في تلك البقعة الخضراء من الأرض.
ليس مجرد عصير... إنها فلسفة!
السيدرا الأستورية ليست مشروبا يصب و يشرب ثم ينسى. لا إنها مسألة هوية و تقاليد و كرنفال حواس يبدأ من العين و ينتهي عند القلب. صنع السيدرا يتم بحرفية تشبه طقوس التأمل التفاح يقطف بعناية ثم يغسل و يسحق ثم يترك ليختمر بسلام كأنه في تأمل صوفي داخل براميل خشبية ضخمة قد تكون أقدم من بعض الأشخاص الذين يشربون منها.
في كل رشفة يشعر السكان و كأنهم يشربون جزءا من التاريخ. و في كل مرة تفتح فيها زجاجة يبدو أن الأرض نفسها تصفق و تقول أحسنتم يا أحفاد التفاح.
التفاحة التي أرادت أن تكون نجما
ما يميز أستورياس أن التفاحة هناك ليست خجولة. بالعكس تبدو فخورة بنفسها متألقة بحمرة خدودها و كأنها خرجت للتو من جلسة تصوير في غابة. و الأهم من ذلك أنها لا تقبل بأن تأكل ببساطة بل تطالب بأن تترك وتسكب ويحتفى بها في مهرجانات. ربما لو كانت لها حسابات على مواقع التواصل لكانت نشرت صورا من الحقول وكتبت هنا... إذا أنا موجودة.
حين يتحول السكب إلى عرض مسرحي
من أجمل طقوس شرب السيدرا في أستورياس هو طريقة سكبها. هناك لا يسكب العصير ببساطة بل يسكب بأسلوب يدعى Escanciado. يقف الساقي يرفع الزجاجة فوق رأسه و الكأس في اليد الأخرى منخفضة عند مستوى الخصر ويسكب العصير في قوس انسيابي كأنه يرسم بالهواء.
هذه التقنية ليست مجرد حركة بهلوانية بل لها هدف علمي نبيل تهوية العصير و تحفيز روائحه الطبيعية و منحه نكهة أكثر حدة و انفتاحا. و إذا سكبته بنفسك وسكبت معه نص العصير على الأرض لا تقلق. الجميع فعلها في أول مرة. إنها ضريبة الدخول إلى عالم التفاح الراقي.
llagar حيث يحدث السحر
مصانع السيدرا والتي تعرف باسم llagares تعد انماط صغيرة لهذا المشروب. هناك تختلط رائحة التفاح القوي بخشب البراميل و الرطوبة الباردة وتشعرك بأنك عدت مئة عام إلى الوراء. في بعض هذه المصانع لا تزال تستخدم وسائل تقليدية للعصر و التخمير ويعامل العاملون البراميل كما يعامل الرهبان كتبهم المقدسة.
و الأجمل أن معظم هذه الأماكن تفتح أبوابها للزوار. يمكنك التجول التذوق وربما شراء زجاجة تحمل اسم المصنع وكأنك عدت من بعثة علمية في كوكب التفاح.
مهرجان التفاح حين ترقص المدينة على نغمة العصير
في فصل الصيف وخاصة في مدن مثل خيخون ونافا تقام مهرجانات ضخمة للسيدرا. هناك تتوقف الحياة العادية ويبدأ الاحتفال الكبير. تقام منافسات لأفضل سكب وأطول قوس وألذ نكهة. الجميع يشارك الكبار الصغار وحتى من لا يحب التفاح يجد نفسه منجذبا للأجواء.
المدهش أن هذه المهرجانات ليست مجرد فرصة للشرب بل هي احتفال جماعي بالتقاليد و جسر بين الأجيال حيث يعلم الجد حفيده كيف يمسك الزجاجة بثقة دون أن ترتعش يده أمام الجمهور.
علاقة السيدرا بالأكل... حب من أول لقمة
السيدرا في أستورياس لا تشرب وحيدة بل ترافق أطباقا محلية تشبهها في الأصالة. أشهرها طبق فابادا أستوريانا وهو يخنة فاصوليا بيضاء مطهية مع لحم ونقانق أستورية تقليدية. النكهات قوية والسيدرا توازنها بخفة وحموضة منعشة.
في الحقيقة السيدرا لا تكمل الطعام فقط بل ترفع من شأنه. كأن كل رشفة تقول للطعام أنا هنا لأجعلك نجم العشاء.
ليست مجرد زجاجة بل قصة كاملة
ما يجعل السيدرا الأستورية فريدة هو أنها لا تختزل في الطعم فقط بل في القصة التي تحملها. إنها تعبير عن الأرض عن الناس عن العادات التي لم تمحى رغم الزمن. و في كل زجاجة تجد نكهة الشمس وقطرات المطر و صبر المزارع و فن الساقي و ابتسامة المحتفل في المهرجان.
هي أكثر من مشروب هي وثيقة هوية تشرب. 
اكتشفت أن هناك أماكن لا تزار فقط بالخرائط بل تشعر بالقلب و الحنجرة حيث كل رشفة تحكي حكاية و كل تفاحة تبتسم من فرط الامتنان. تركت خلفي زجاجة سيدرا غير مفتوحة كتذكار و مجموعة صور ضبابية
خاتمة أستورياس حيث يتكلم التفاح
من يزور أستورياس يعود وفي قلبه تفاحة. ليس لأنه أكل منها بل لأنه عاش لحظات تتجاوز المذاق. السيدرا هناك ليست رفاهية بل أسلوب حياة. إنها مثال حي على كيف يمكن لتقليد بسيط أن يتحول إلى مصدر فخر واحتفال وقصة لا تنسى.
فإذا مررت يوما بهذه الأرض الخضراء لا تنس أن تقول للتفاحة أنا آسف لأنني كنت أراك مجرد فاكهة.