الأربعاء 23 أبريل 2025

سنغافورة، تفرض على السائقين آلاف الدولارات لمجرد الحصول على تصريح شراء سيارة

موقع أيام تريندز

يُعد نظام "شهادة الاستحقاق" (COE) في سنغافورة أحد أهم السياسات الحكومية التي تهدف إلى تنظيم عدد المركبات على الطرق في دولة ذات مساحة محدودة وكثافة سكانية مرتفعة. في ظل هذا النظام، يُطلب من كل من يرغب في شراء سيارة أن يقدم مزايدة للحصول على تصريح يخول له ملكية السيارة لمدة 10 سنوات، وهذه الشهادة تُكلِّف أحيانًا آلاف الدولارات، بل وقد تصل تكلفتها إلى أكثر من 100 ألف دولار، وهو ما يجعل من عملية شراء السيارة عبئًا ماليًا ضخمًا على المواطن.

خلفية النظام وأهدافه

منذ تطبيقه في عام 1990، جاء نظام شهادة الاستحقاق كوسيلة للحد من الازدحام المروري والتلوث البيئي. إذ أن سنغافورة، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 5.9 مليون نسمة، تعاني من نقص في المساحة والموارد الطبيعية، فيجب عليها تنظيم حركة المركبات بشكل دقيق لضمان انسيابية المرور والحفاظ على البيئة. يعمل النظام من خلال طرح عدد محدود من الشهادات في مزايدات مفتوحة تُعقد مرتين في الشهر، حيث يتم تحديد عدد الشهادات المتاحة بناءً على معايير عدة مثل عدد السيارات المُسجلة التي تم شطبها من السير، والنمو المتوقع في عدد المركبات.

آلية عمل الشهادة

عند رغبة أحد الراغبين في شراء سيارة في سنغافورة، يتوجب عليه المشاركة في المزاد الذي يُحدد فيه سعر الشهادة. تُقدَّم العروض في هذا المزاد، وتُمنح الشهادة لأولئك الذين يقدمون أعلى الأسعار حتى يتم استنفاد الكمية المتاحة. وبسبب ارتفاع الطلب وقلة العرض، ترتفع الأسعار بشكل كبير. على سبيل المثال، ذكرت وكالة رويترز أن شهادة الاستحقاق لسيارة كبيرة وصلت إلى حوالي 146,002 دولار سنغافوري (ما يقرب من 106,000 دولار أمريكي) cite​

، بينما تفرض مصادر أخرى مثل صحيفة "الإندبندنت" مبالغ تقارب 87,000 جنيه إسترليني للحصول على شهادة مماثلة cite​

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية

يؤثر ارتفاع أسعار شهادات الاستحقاق بشكل مباشر على قرار المواطنين بشأن امتلاك السيارات. ففي ظل هذه التكاليف الباهظة، أصبح امتلاك سيارة حلمًا بعيد المنال للطبقة المتوسطة، مما أجبر الكثيرين على اللجوء إلى وسائل النقل العام. ويُعتبر هذا النظام أداة فعالة للحد من انتشار السيارات الخاصة، إذ أن الكلفة الإجمالية لامتلاك سيارة في سنغافورة لا تقتصر فقط على سعر الشهادة، بل تشمل أيضًا رسوم التسجيل والضرائب المختلفة، ورسوم الصيانة والتأمين، مما يؤدي إلى زيادة التكلفة الإجمالية بشكل ملحوظ.

يُشير بعض الاقتصاديين إلى أن هذه السياسة تُعيد تشكيل مفهوم "الحلم السنغافوري"، الذي كان يتمثل سابقًا في امتلاك منزل وسيارة، إلى حلم يقتصر في الغالب على امتلاك السكن فقط، بينما يُعتبر امتلاك السيارة رمزًا للترف والحالة الاجتماعية العالية cite​

مزايا النظام والتحديات التي يواجهها

المزايا

الحد من الازدحام المروري: يساعد النظام في تنظيم عدد السيارات المتداولة على الطرق، مما يقلل من الاختناقات المرورية ويحسن من كفاءة النقل.

التحكم في التلوث البيئي: بفرض تكلفة مرتفعة على امتلاك السيارة، يُحفز النظام المواطنين على استخدام وسائل النقل العام الصديقة للبيئة.

تعزيز الاستثمار في النقل العام: تُستخدم الأموال الناتجة عن مزادات الشهادات في تحسين وتوسيع شبكة المواصلات العامة، مما يُسهم في توفير بديل اقتصادي وفعال عن السيارة الخاصة.

التحديات

العبء المالي على المواطنين: بالرغم من فوائد النظام على المستوى العام، إلا أنه يفرض عبئًا ماليًا كبيرًا على الأفراد، خاصةً على الطبقة المتوسطة التي تجد نفسها مضطرة إلى استنزاف جزء كبير من ډخلها الشهري لتمويل هذه التكاليف.

الاحتكار والتمييز: أدت الزيادة المستمرة في أسعار شهادات الاستحقاق إلى خلق نوع من "ثقافة السيارات" حيث تُعتبر امتلاك السيارة رمزًا للمكانة الاجتماعية، مما يزيد من الفجوة بين الأغنياء والطبقة المتوسطة.

تحديات في سوق السيارات المستعملة: تنتقل تكلفة شهادة الاستحقاق إلى السيارة المستعملة، حيث تُضاف قيمة الشهادة إلى سعر السيارة، مما يجعل السوق غير شفافة ويُعرقل تداول المركبات.

آفاق مستقبلية وحلول بديلة

تسعى الحكومة السنغافورية باستمرار إلى إيجاد حلول بديلة لتخفيف العبء عن المواطنين، ومن أبرزها الاستثمار الكبير في وسائل النقل العام. فقد أنفقت سنغافورة مبالغ هائلة تصل إلى 113 مليار دولار لتحسين وتوسيع شبكة القطارات والحافلات منذ الثمانينيات، وهو استثمار جعل من وسائل النقل العام الخيار المفضل للعديد من المواطنين.

كما بدأت تظهر بعض الإشارات على انخفاض أسعار شهادات الاستحقاق في بعض الفترات، مما قد يُشير إلى توازن جديد في السوق نتيجة لتأثير المنافسة والضغوط الاقتصادية. ومع ذلك، يبقى النظام قائمًا كأداة رئيسية لتنظيم حركة المرور والحفاظ على البيئة في دولة تعاني من محدودية المساحة.

مقارنة مع تجارب دول أخرى

لا تعد سنغافورة الوحيدة التي تتبنى سياسات تنظيم عدد السيارات، إذ تتبع بعض المدن الكبرى حول العالم سياسات مشابهة، مثل هونغ كونغ وملبورن، إلا أن مستوى التكلفة في سنغافورة يفوق معظم هذه الدول بسبب القيود الصارمة وندرة الأراضي. فبينما يُمكن للمواطن في بلد مثل الولايات المتحدة شراء سيارة بأسعار معتدلة نسبيًا، فإن المواطن السنغافوري يواجه تكاليف إضافية تجعل من امتلاك سيارة عملية ذات تكلفة باهظة للغاية cite​

الخاتمة

يشكل نظام شهادة الاستحقاق في سنغافورة نموذجًا فريدًا لإدارة وتنظيم حركة المركبات في دولة تعاني من محدودية المساحة والموارد. وبينما يحقق هذا النظام أهدافًا مهمة مثل الحد من الازدحام المروري والتلوث البيئي، فإنه يفرض أيضًا تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة على المواطنين، خاصةً الطبقة المتوسطة التي تجد نفسها مضطرة للتخلي عن حلم امتلاك سيارة خاصة بسبب التكلفة الباهظة. في ظل التطورات الحالية والاستثمارات المستمرة في وسائل النقل العام، يبدو أن مستقبل التنقل في سنغافورة يتجه نحو تقليل الاعتماد على السيارات الخاصة واعتماد المزيد من البدائل الاقتصادية والصديقة للبيئة. ومن خلال هذا التوازن، تأمل الحكومة في الحفاظ على مستوى عالٍ من الجودة في الحياة الحضرية، مع ضمان استدامة الموارد وتقليل الآثار البيئية الضارة.

باختصار، بينما يُعتبر الحصول على شهادة الاستحقاق خطوة أساسية لمن يرغب في امتلاك سيارة في سنغافورة، إلا أنها في الوقت ذاته تمثل عقبة كبيرة تحول دون انتشار السيارات الخاصة، مما يبرز أهمية تعزيز وتطوير وسائل النقل العام كبديل فعّال ومستدام في ظل البيئة الحضرية الفريدة لهذه الدولة الصغيرة.